تقع دورا أوروبوس Dura-Eupopos إلى الجنوب الشرقي من مدينة دير الزور، بين مدينتي الميادين والبوكمال وعلى مسافة تسعين كيلومتراً على الطريق المؤدية إلى مدينة البوكمال، وتمتد على الهضبة الغربية لنهر الفرات، وعلى رقعة غير منتظمة الشكل تقارب مساحتها السبعين هكتاراً، محاطة بأسوار منيعة تدعمها حواجز طبيعية، مما جعلها تشكل نقطة مراقبة هامة لطرق القوافل البرية والنهرية، وينتشر خارج أسوار المدينة عدد من المدافن الأرضية والبرجية وأقواس النصر وبقايا معسكر الحصار الساساني.
تم تأسيس دورا أوروبوس مع نهاية القرن الرابع قبل الميلاد، على يد أحد ضباط الملك سلوقوس الأول، كحامية عسكرية مقدونية بسيطة، محتمية بقلعة حصينة تمكنها من بسط السيطرة على الفرات الواصل بين عاصمتي الإمبراطورية السلوقية أنطاكية وسلوقية (على نهر دجلة)، ويبين اسم دورا أوروبوس أصلها، فكلمة دورا تعني «الحصن» باللغة الآشورية-البابلية أو الآرامية وأوروبوس اسم مسقط رأس سلوقوس الأول. وتحولت هذه الحامية إلى مدينة في القرن الثاني قبل الميلاد حين اكتملت تحصيناتها الخارجية وتقسيماتها الداخلية وفق النموذج الإغريقي الخالص.
مع بداية القرن الثاني قبل الميلاد هاجم البارثيون القادمون من إيران الأراضي السورية، ومن أجل الدفاع عن المدينة، تم استكمال بناء أسوارها بمادة اللبن بدلاً من الحجر المنحوت، ولكن لم يكتب لمباني ساحتها المركزية أن تستكمل، فقد وقعت المدينة تحت السيطرة البارثية عام 113 ق.م، وبقيت لثلاثة قرون خاضعة للإمبراطورية البارثية، وعاشت في هذه المرحلة عصرها الذهبي من حيث السلام والتآخي بين الأديان، فتشابه الإله زيوس مع بل، وتحولت أرتميس إلى نانايا ووجدت آلهة جديدة مكاناً لها كآلهة ما بين النهرين والفرات وشمالي سورية والفينيقيين. وفي عام 165م احتل الرومان المدينة لتعود ثانية حصناً عسكرياً مدافعاً عن الحدود الشرقية للإمبراطورية الرومانية وأصبح سكانها مواطنين رومان بفضل مرسوم أصدره الإمبراطور كركلا، وأضاف الرومان إلى المدينة بعضاً من أقواس النصر والمعابد العسكرية والقصور. ولم يدم حكمهم للمدينة أكثر من قرن، عندما أعاد الساسانيون احتلالها، ودمروها على يد شابور الأول عام 256م، وتركوها أثراً بعد عين، إذ زارها بعد قرن من هذا التاريخ الإمبراطور الروماني جوليان فوجدها مدينة أشباح، وهجرت المدينة إلى القرن السابع الميلادي، ثم استوطنتها مجموعة عربية أموية بجوار قلعتها قبل أن تترك للنسيان.
وفي آذار عام 1920م، وأثناء حفر الجنود الإنكليز خنادق في الصحراء، سقط الجند في فراغ تكشفت جدرانه عن لوحات تحمل مشاهد حياتية ودينية لأشخاص يرتدون أثواباً طويلة وقبعات مخروطية، مما استدعى طلب الباحث الأمريكي جيمس هنري بريستد لفحصها، وقد تقدم الباحث إثر ذلك بوصف مفصل عنها إلى أكاديمية النقوش الفرنسية التي سارعت إلى تأليف بعثة، ترأسها الباحث البلجيكي فرانس كومان F.Cumont، عملت في الموقع من عام 1922 إلى 1924، وتمكنت في نهايتها من الإعلان بأن الموقع هو مدينة دورا أوروبوس التي بحث عنها علماء الآثار على الضفة الشرقية لنهر الفرات دون جدوى، وقد نشر عن المرحلة الأولى من أعمال التنقيب مؤلف مشهور للباحث فرانس كومان، وبعد ذلك أهمل الموقع حتى عام 1928، تاريخ تشكيل البعثة الفرنسية الأمريكية التي اشترك فيها باحثون من جامعة يال YALE ونفذت عشرة مواسم، امتد كل منها على ستة أشهر مستعينة بنحو 300 عامل، نقبت خلالها قرابة ثلث مساحة المدينة، وترأسها الباحث الأمريكي ميخائيل روستوفتزف M.Rostovtzeff، وفي نهاية عام 1937، توقفت أعمال التنقيب مع إرهاصات الحرب العالمية الثانية لتترك المدينة للنسيان حتى عام 1986، تاريخ تشكيل البعثة السورية الفرنسية العاملة في الموقع حتى اليوم. وكان قد صدر تقرير أولي سنوياً عن المواسم التي جرت بين عامي 1928-1936، ثم أصدرت جامعة يال الدراسات النهائية عن دورا أوروبوس في عدد من المجلدات المتعاقبة من عام 1943 حتى الآن. وفي العام 1986 عادت أعمال التنقيب والترميم إلى الموقع على يد بعثة مشتركة سورية- فرنسية من المديرية العامة للآثار والمتاحف ووزارة الخارجية الفرنسية. قامت بدراسة التحصينات، وإجراء الترميم على أجزاء هامة منها، ومنها القصر الكبير، الذي شهد أعمال توسيع في بداية القرن الثاني قبل الميلاد، وقد تم العثور على فخاريات من العصر الآشوري، تثبت أن الموقع كان آهلاً وعامراً بشكل واسع قبل الفتح المقدوني، ولم يقتصر على حصن بسيط كما كان يظن.
قامت البعثات الثلاث التي عملت في الموقع بتنقيب مساحة ثلث مساحة المدينة فقط، إذ أظهرت هذه التنقيبات الأسوار والأبراج الستة والعشرين والبوابات الثلاث إضافة إلى القلعة وعدد من القصور (قصر القلعة، قصر الحاكم، قصر حاكم النهر) والشارع الرئيسي المعمّد والساحة المركزية وخمسة حمامات رومانية وسبعة عشر معبداً، أهمها معبد بل ومعبد أرتميس وعثرغاتيس والبيت المسيحي الأقدم في العالم والكنيس المحلي المعاد بناؤه في متحف دمشق؛ وقد زُيّن معظم هذه المعابد برسوم جدارية تظهر النزعة الطبيعية والفنون الطقسية المرتبطة بالأصول الإغريقية لفن الأيقونة، مما أهّل دورا أوروبوس لنيل لقب «بومباي الصحراء». كما تم العثور أيضاً على الكثير من التماثيل والمنحوتات، كتمثال الإلهة أفروديت فوق درع السلحفاة، ومنحوتة الإله آرصو ومشهد الإله بل وكثير غيرها، وقد عكست هذه المنحوتات طبيعة الفن الخاص بدورا أوروبوس، وتم إنجازها جميعاً بواسطة حجر الجبس، وبيد نحاتي المدينة، وعثر كذلك على العديد من المخطوطات الرقية والنقود، وأشلاء من ورق البردي والنقوش الكتابية، والتي كان أحدث ما اكتشف منها ذلك النقش اليوناني الذي وجد مؤخراً في إحدى درجات المسرح الصغير التابع لمعبد أرتميس، والذي ساعد في فهم الواقع السياسي للمدينة، إذ يقول النقش: «من مجلس الشورى في دورا إلى سبتيميوس أوريليوس ليزياس الحاكم الرئيس والقائم الإمبراطوري على رعية المدينة مع الشرف السرمدي».
إن من يتأمل الموقع وتاريخه، يجد فيه مزيجاً من حضارات مختلفة تركت بصماتها فيه، بداية من مخططها الشطرنجي الإغريقي إلى معابدها البارثية المتأثرة بحضارة ما بين النهرين، انتهاءً برموز وشعائر النصر الرومانية، والآلهة المختلفة السورية واليونانية والشرقية والرومانية، كل ذلك جعل من دورا أوروبوس بوتقة انصهرت فيها مختلف أشكال الفنون ومفترقاً تقاطعت عنده الحضارات الشرقية والإغريقية مبدعة نتاجاً فنياً ساحراً ولا أدل على ذلك من رسومها الجدارية التي تعد المحطة الأساسية والأهم لأي باحث في العالم يرغب بدراسة فن الأيقونة أو الرسم الجداري. ويمكن العثور على مكتشفات دورا أوروبوس في متحف دمشق ومتحف دير الزور ومتحف جامعة YALE الأمريكية.