تقع واحة الكوم على بعد 90 كيلومتراً تقريباً شمال-شرقي تدمر في قلب البادية السورية، وتأخذ شكل حوض مربع، تحيط به الأودية من جهاته الأربع، وتقوم في جزئها الجنوبي قرية الكوم، وفيها تل الكوم الكبير.
أظهرت الأبحاث أهمية الحوض البالغة في عصور ما قبل التاريخ، وقد توفرت فيها جميع المقومات الضرورية للحياة الأولى، سواء من الحيوانات كالخيول والجمال والماعز والبقر، أو النباتات كالقمح والموز وغيره، واحتوت المنطقة أيضاً على الكثير من الينابيع الارتوازية الغزيرة المياه، إضافة إلى توفر مقالع حجر الصوان ذي النوعية الممتازة والذي تم استخدامه في تصنيع مختلف أنواع الأسلحة والأدوات.
ابتدأت الأعمال الأثرية في المنطقة في الستينيات من القرن نفسه، عندما قام الباحث الهولندي موريس فان لون من جامعة أمستردام بالتنقيب في الجزء المرتفع من تل الكوم. ثم تابعت بعثة فرنسية منذ السبعينيات بإدارة جاك كوفان ودانييل ستوردور التنقيب في الجزء المنخفض من التل، وفي تل القدير شمال وغربي الواحة. وتعمل في المنطقة حالياً بعثات مختلفة فرنسية وسويسرية وسورية، مسحاً وسبراً وتنقيباً، ويشارك فيها باحثون من اختصاصات متنوعة ويديرها جان ماري لو تانسوريه وإريك بويدا والباحث السوري سلطان محيسن.
لقد بينت الدراسات أن المنطقة سُكنت منذ زمن قديم جداً، وكان الاستيطان البشري فيها كثيفاً ومستمراً، دلت عليه مئات المواقع العائدة إلى عصور ما قبل التاريخ، أهمها تلك التي تقع بجوار ينابيع المياه القديمة التي تردد عليها البشر مئات الآلاف من السنين، تاركين بقاياهم الأثرية ومستحاثات تجمعت بسماكات تجاوزت عشرات الأمتار، وضمت ملايين الأدوات الحجرية مما يثير شهية الباحثين. تم اكتشاف أقدم آثار الاستيطان في موقع بئر الهمَل، حيث عثر المنقبون في الطبقات الدنيا لهذه البئر على أدوات حجرية بدائية يُقدر عمرها بنحو مليون سنة. وفي موقع الميرة اكتشفت آثار استيطان غنية دلت عليها الأدوات الحجرية، وأهمها الفؤوس اليدوية المتقنة الصنع والتي تعود إلى المرحلة المسماة بالآشولي الأوسط وتبين أنها تعود إلى أكثر من 700 ألف سنة خلت.
لقد ازداد استيطان المنطقة منذ نحو نصف مليون سنة من حيث الكثافة والانتشار، تم اكتشاف أكثر من عشرين طبقة أثرية تعود إلى العصر الحجري القديم الأدنى، في موقع الندوية (عين عسكر)، وأظهرت المكتشفات تطوراً فريداً للحضارة الآشولية في مراحلها الباكرة والوسطى والأخيرة، دلت عليه آلاف الفؤوس الحجرية ذات الأشكال الدقيقة الجميلة التي عدها بعضهم بداية الفنون الأولى. أما الكشف الأهم في هذا الموقع فهو العظم الجداري اليساري لإنسان الهوموأركتوس ويعد أهم ما عثر عليه لهذا الإنسان في المشرق العربي القديم. وقد كشف في الكوم أيضاً عن حضارات جديدة لم تكن معروفة، فصلت بين العصرين الحجري القديم الأدنى والعصر الحجري الأوسط القديم، أي بين 250 إلى 150 ألف سنة خلت، أهم هذه الحضارات الحضارة اليبرودية نسبة إلى يبرود، والتي اشتهرت باستخدام المقاحف القصيرة والغليظة، والحضارة الهمَّلية نسبة إلى الهمَّل، التي تميزت باستخدام الحراب والنصال.
ازدادت كثافة الاستيطان في الكوم في العصر الحجري القديم الأوسط (أي بين 150 إلى 40 ألف سنة خلت)، وأكثر المواقع أهمية هو موقع أم التلال، إذ كُشف فيه عن مئات الطبقات الأثرية، أظهرت الدنيا منها الآثار العائدة إلى الحضارة الموستيرية Mousterien، وعلى رأسها المقاحف والسكاكين وحراب الصيد. كما اكتشفت بقايا ومستحاثات أخرى ذات أهمية بالغة كأوراق الشجر والأغصان وأحجار تحمل حزوزاً، ربما هي أشكال فنية، وتشكيلات لأدوات وعظام قد يكون القصد منها التعبير عن أفكار أو معتقدات دينية. وهناك حربة صوانية كُسرت في رقبة حمار وحشي تم صيده، إضافة إلى دلائل وجود القار بعد جلبه من مقالع بعيدة عشرات الكيلومترات عن الموقع، وقد استخدم القار في صنع قبضات الأدوات الحجرية، وذلك منذ حوالي 70 ألف سنة. عُثر في موقع أم التلال أيضاً على عظم القذال لإنسان النياندرتال الذي عاش في تلك الفترة.
تراجع استيطان حوض الكوم في العصر الحجري القديم الأعلى منذ نحو 40 ألف سنة، واقتصر على بعض المواقع السطحية إضافة إلى الطبقات العليا من موقع أم التلال، حيث كُشف عن آثار الحضارة الأورينياسية المشرقية Levantine Aurignaician. وبقي الاستيطان متواضعاً على امتداد العصر الحجري الوسيط دلت عليه الآثار والمواقع العائدة إلى الحضارة الكبارية والنطوفية.
عاشت في الكوم في العصر الحجري الحديث مجتمعات مستقرة، أنشأت القرى لأول مرة ومارست الزراعة وتدجين الحيوانات وعرفت تصنيع الأواني الفخارية ومارست الفنون والمعتقدات، وقد اكتشفت في تل الكوم قرية زراعية مستقرة حضرية عاشت في الألف السادس ق.م، بيوتها من اللبن والحجر وطليت بالملاط وزودت بالتمديدات الصحية للمرة الأولى. أما في موقع القدير المعاصر لتلك القرية فلم يعرف سكان القرية بناء البيوت بل كُشف فيه عن حُفر ومواقد ومشاعل مؤقتة تدل على مجتمعات بدوية متنقلة مارست الرعي. ويدل ذلك على أن المجتمعات الحضرية والبدوية عاشت متجاورة واستمرت بينها العلاقات المتبادلة على امتداد العصور القديمة وحتى الآن.
سكنت المنطقة في الألف الرابع ق.م مجتمعات تنتمي إلى حضارة الوركاء التي انتشرت على مساحة ممتدة من جنوبي بلاد الرافدين حتى شمالي سورية وكانت أول من ابتكر الكتابة التصويرية التي تطورت فيما بعد إلى الكتابة المسمارية منهية بذلك عصور ما قبل التاريخ. مع نهاية هذه العصور انتهى الدور التاريخي المتميز لواحة الكوم، ولكن الحياة استمرت فيها على امتداد العصور اللاحقة وكانت مأهولة في العصور التاريخية القديمة وعلى امتداد الألف الثالث والثاني والأول ق.م. ثم أصبح دورها أكثر أهمية في العصور الكلاسيكية والهلنستية والرومانية والبيزنطية، وصولاً حتى العصور العربية الإسلامية.