تقع إبلا المدينة الأثرية القديمة في موقع تل مرديخ قرب بلدة سراقب في محافظة إدلب على مسافة تبلغ حوالي 55 كيلومتراً جنوب غرب حلب.
مملكة إبلا
وقد كانت إبلا مملكة عريقة وقوية ازدهرت في شمالي سورية في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد، فبسطت نفوذها على المناطق الواقعة بين هضبة الأناضول شمالاً وشبه جزيرة سيناء جنوباً، ووادي الفرات شرقاً وساحل المتوسط غرباً، وأقامت علاقات تجارية ودبلوماسية وثيقة مع دول المنطقة مثل مصر وبلاد الرافدين، وظل مكان إبلا غير معروف حتى وقت قريب، إلى أن كشفت عنها بعثة أثرية إيطالية من جامعة روما يرأسها عالم الآثار الشهير باولو ماتييه.
وكان ذكر إبلا قد ورد أول مرة في وثائق تعود إلى عصر شروكين الأكادي، مؤسس الإمبراطورية الأكادية، كما ورد ذكرها في نصوص رافدية وغير رافدية كثيرة من غير تحديد لمكانها، واختلف العلماء في تحديد موقعها وذهبوا في ذلك مذاهب عديدة.
بدأت الحفريات في موقع تل مرديخ، هذا التل الهام الذي طالما أثار اهتمام علماء الآثار، عام 1964 إلا أن أحداً لم يتوقع مع بدء الحفريات أن نتيجتها ستكون اكتشاف آثار إحدى أهم ممالك الشرق الأدنى القديم ألا وهي مدينة إبلا.
القصر الملكي في إبلا
يتصف تل مرديخ بأنه تل كبير له شكل شبه منحرف تقريباً، تبلغ مساحته 56 هكتاراً، يمتد نحو 1800 متر من الشمال إلى الجنوب ونحو 700 متر من الشرق إلى الغرب، ويتألف من مرتفع مركزي (أكروبول) بنيت فوقه الأبنية الرسمية كالقصور والمعابد، ومنطقة سهلية تمتد فيها أحياء المدينة على شكل دائري (المدينة التحتانية)، يحيط بها إكليل مرتفع يدل على سور المدينة الذي كان قائماً في الماضي. وتظهر في هذا الإكليل أربعة انكسارات في الجنوب الغربي والجنوب الشرقي والشمال الغربي والشمال الشرقي، تدل بشكل واضح على بوابات المدينة القديمة. استمرت الحفريات الأثرية في تل مرديخ من عام 1964م حتى عام 1968م، دون الوصول إلى نتائج ذات أهمية تذكر. واقتصرت اللقى المكتشفة على بقايا معمارية (أنقاض قصر ومعبدين وجزء من سور المدينة)، وبعض الأواني الفخارية والأدوات البرونزية والقطع الفنية، التي تعود إلى الفترات المتأخرة من تاريخ هذا الموقع. وظلت البعثة الإيطالية تقوم بالحفريات في تل مرديخ عدة سنوات قبل أن تعرف اسمه القديم عام 1968م، عندما عثرت على تمثال من البازلت لأحد ملوك إبلا المدعو «إيبيط-ليم بن إغريش-خيبا». وكان التمثال منحوتاً من حجر الصوان الأسود (البازلت) وقد فُقد رأسه وجزء من أحد كتفيه. وتكمن أهمية هذا الاكتشاف في النقش المؤلف من 26 سطراً المكتوب بالخط المسماري واللغة الأكادية الذي يحمله على صدره. وهو نقش نذري يتحدث عن تقديم نذر للإلهة عشتار آلهة الخصب والحب والحرب، والنذر المقدم عبارة عن جرن ماء لغرض الوضوء والطهارة.
واستمرت الحفريات الأثرية في تل مرديخ لتكشف في عام 1974-1975 عن الأرشيف الملكي، ولتؤكد بما لا يدع مجالاً للشك صحة المطابقة بين إبلا وتل مرديخ، وليبدأ عندها عهد جديد في دراسة تاريخ الشرق الأدنى القديم بشكل عام، وتاريخ سورية القديم بشكل خاص.
ففي شهر آب من موسم حفريات عام 1974م، عثر المنقبون في إحدى حجرات الجناح الشمالي الغربي من القصر الملكي G على اثنين وأربعين لوحاً وكسرة طينية، نقشت عليها كتابة بالخط المسماري بلغة غير معروفة سابقاً، اصطلح فيما بعد على تسميتها باللغة الإبلوية نسبة إلى إبلا.
وتتابعت الاكتشافات إلى أن تم الكشف عن الأرشيف (المحفوظات) الملكي الإبلوي، وكانت من أعظم الاكتشافات الأثرية، إذ ساهمت في تسليط الضوء على تاريخ سورية والمنطقة خلال الألفين الثالث والثاني ق.م. وكانت هذه النصوص إدارية واقتصادية وقضائية ودينية وأدبية ومدرسية وقوائم معجمية (قواميس) ورسائل ومعاهدات. وبلغ تعداد هذه الرقم حوالي سبعة عشر ألف وخمسمئة رقيم وكسرة طينية مكتوبة باللغة الإبلوية.
ويبدو أن إبلا كانت مملكة مهمة جداً في منطقة الشرق الأدنى القديم، إذ يرد ذكرها في العديد من النصوص والوثائق المكتشفة خلال الفترة ما بين 2500 ق.م إلى 2000 ق.م. وقد ورد ذكرها أول مرة في نص لشروكين الأكادي. ويفاخر حفيده نارام سين بأنه أخضع أرمان وإبلا وكامل المنطقة.
يبدو أن إبلا عادت واستعادت موقعها بعد تدميرها على يد نارام سين إذ يرد ذكرها في وثائق تعود إلى عهد السلالة الثانية في لاغاش يبدو فيها حاكم لاغاش معتمداً على إبلا في استيراد كثير من المواد التي يحتاجها مثل الأنسجة الكتانية وأخشاب الصنوبر وغيرها. لكن معظم الإشارات إلى إبلا تظهر في نصوص السلالة الثالثة في أور 2112-2004 ق.م، وتدور على الأغلب حول أعمال تجارية واقتصادية وهدايا ونذور لمعابد . وتوضِّح نصوص أخرى أن إبلا كانت مأهولة بعناصر من الآموريين والحوريين، ويُستدل على ذلك من أسماء الملوك والمواطنين الإبلائيين المذكورة في العديد من النصوص المكتشفة في مواقع أثرية مثل موقع ألالاخ وفي النصوص الآشورية، كما تذكرها بعض النصوص الحثية والمصرية. ويبدو من المصادر الرافدية أن هذه المدينة كان لها شأن سياسي وتجاري كبير في تاريخ الممالك القديمة الواقعة شرق البحر المتوسط في النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد، وأن هذه الأهمية اختفت بعد تلك الفترة وبرزت حلب كعاصمة لمنطقة شمالي سورية.
كانت إبلا في عصر المحفوظات الملكية مملكة مستقرة مزدهرة يحكمها ملك يحمل لقباً سومرياً يعني «سيد» ويقابله في اللغة الإبلوية لقب «ملك» وكان الملك في إبلا رأس الدولة ومسؤولاً عن السياسة الخارجية والداخلية والإدارية والقضائية للدولة، وإلى جانب الملك كان مجلس «الآبا» ويعادل مجلس الشيوخ وكانت مهمته مراقبة ممارسات الملك للسلطة. ويلي السيد في المرتبة مسؤول يدعى «لوغال» أو حاكم المقاطعة، وتذكر النصوص أربعة عشر حاكماً. وهذا يعني أن إبلا كانت مقسمة إلى أربع عشرة مقاطعة. وتدحض هذه المكتشفات الاعتقاد السائد لدى المؤرخين أن سورية كانت تسكنها في الألف الثالث قبل الميلاد قبائل بدوية إذ تؤكد بوضوح وجود دولة منظمة قوية هي إبلا، استفادت من موقعها التجاري، فغدت دولة قوية إلى جانب كيش ومصر وامتد نفوذها في جميع الاتجاهات.
تنوعت علاقات إبلا مع الدول حسب المصالح إذ تراوحت ما بين عقد التحالفات والمعاهدات وشن الحروب، وقد عمد ملوك إبلا إلى الزواج السياسي لتعزيز علاقات الصداقة مع الملوك الآخرين. ولم يكن لدى إبلا جيش دائم لأن أغلب سكانها كانوا مشغولين بنشاطاتهم الاقتصادية، فكانت ملزمة باستئجار مرتزقة عند الضرورة، أو تمتين أواصر تحالفها مع الممالك المجاورة. وتظهر النصوص المكتشفة حتى الآن عشر معاهدات عقدت بين إبلا وجيرانها أهمها المعاهدة بين ملك إبلا وملك آشور التي تنظم العلاقات بين المملكتين. ومع أن الإبلويين كانوا مهتمين بالتجارة أساساً إلا أنهم كانوا يلجؤون أيضاً إلى السلاح عندما كانت الحاجة تدعو إلى ذلك. ومن الحروب التي خاضوها حربهم مع مملكة ماري التي انتصر فيها قائد الحملة إنّا-دجن على ملك ماري وتسلم محله.
كان غنى إبلا يقوم أساساً على الزراعة وتربية الحيوان، وكانتا قاعدة اقتصادها القوي وعماد صناعتها وتجارتها. كما تميز الإبلويون بصناعة النسيج وبمهارات التعدين، حيث استخدموا المعادن التي استخلصوها في صنع العديد من الأدوات. وشكلت التجارة أهم الفعاليات الاقتصادية في إبلا وبرع الإبلويون فيها وساعدهم في ذلك موقعهم الجغرافي المناسب وحسن إدارتهم للعملية التجارية وعلاقاتهم السياسية الجيدة مع جيرانهم.
وازدهرت أيضاً الحياة الاجتماعية والثقافية، فكانت إبلا مركزاً ثقافياً له مؤسساته وعلاقاته الثقافية مع البلدان المجاورة. وشهدت إبلا استقطاباً للتجار والكتاب والشعراء والمغنين والكهنة وهناك ما يشير أن ما يشبه الندوات الأدبية أو الثقافية أو حتى العلمية أحياناً كانت تعقد فيها. والكثير من النصوص يدل على صلات ثقافية بين إبلا ومناطق الشرق الأدنى القديم الأخرى.
بالنسبة للديانة الإبلوية فقد اتصفت بصفتين وهما، تعدد الآلهة، وسيادة الآلهة الكنعانية في مجمع الآلهة، ومن آلهتها المهمة: نيداكول، ودجن، وإله الشمس، وككّاب إله النجم، ورشف إله الطاعون والعالم السفلي، وأشتار وعشتارُت، بالإضافة إلى آلهة الشعوب الأخرى. وكانت مدينة إبلا مقسمة إدارياً إلى قسمين يضمان أحياء المدينة الأربعة، وكان لها أربع بوابات تحمل كل منها اسم إله، وهي: بوابة رشف وبوابة شيبيش إله الشمس، وبوابة دجن، وبوابة بعل.
بدأت مدينة إبلا تفقد أهميتها مع الغزوات والتدمير الذي تعرضت له جراء محاولة جيرانها الأقوياء التخلص من نفوذها التجاري والاقتصادي والسياسي. وقد أعيد بناؤها في أزمنة لاحقة ولا سيما بين 1900-1800 ق.م. ويعود تاريخ القصر الغربي الكبير في أسفل المدينة إلى هذه الحقبة وتم بناؤه نحو سنة 1900 ق.م واكتشف عام 1978م، وهو يغطي مساحة تزيد عن ثلاثة أرباع الهكتار. كذلك اكتشفت في هذه المنطقة مدافن تضم قبور أمراء ونبلاء. وتنتمي إلى هذه الحقبة معابد إبلا الكبرى مثل «المعبد الكبير» المخصص لعبادة عشتار. والمعبد المخصص لعبادة رشف، ومعبد إله الشمس. خضعت إبلا بعد ذلك لسيادة مملكة يمحاض في حلب. وفي نهاية هذه الحقبة 1650-1600 ق.م انهارت مملكة إبلا ودُمِّرَت، ويرتبط ذلك تاريخياً باحتلال الحثيين المنطقة على يد حاتوشيلي الأول وحورشيلي الأول.
وقد تحولت إبلا في الأزمنة اللاحقة إلى تجمع بشري صغير ليس له أهمية تذكر حتى طوي أثرها.
لقد استقطبت إبلا وما تزال تستقطب اهتمام علماء الآثار والمسماريات من مختلف أنحاء العالم وتم تشكيل لجان علمية متخصصة لدراسة ما تمخضت عنه التنقيبات الأثرية التي ألقت ضوءاً ساطعاً على تاريخ سورية والعالم القديم في تلك الحقبة من الزمن.