عملة ذهبية عليها وجه الإسكندر الكبير
نشأتهولد الإسكندر في صيف سنة 356ق.م، وكان ثمرة زواج فيليب الثاني زواجاً سياسياً من اولومبياس (Olympia) أخت اسكندر ملك ابيروس.
تلقى الإسكندر تربية خاصة لم يحصل عليها أي ملك من ملوك مقدونية الأوائل، وخاصة من الناحية التعليمية، فقد تولى تعليمه وهو في الثالثة عشرة الفيلسوف الكبير
أرسطو 384-322ق.م. واستمد الإسكندر صفاته من مصادر ثلاث، فقد ورث عن أبيه الجلد والحزم والمهارة في معالجة الأمور، كما ورث عن أمه تأجج العواطف وسرعة الانفعال والغضب، وجاءت تعاليم أستاذه أرسطو فكان لها أبلغ الأثر في نضوج تفكيره واتساع أفقه اتساعاً تجاوز في سمو كريم نطاق تفكير أرسطو وأفكار أستاذه
أفلاطون.
استتباب الأمر للاسكندرما إن ارتقى الإسكندر عرش مقدونية حتى هبت عليه من الجنوب والشمال عواصف القلق والاضطراب. ذلك أن الاغريق رأوا في موت فيليب فرصة للتخلص من التزاماتهم التي ارتبطوا بها بموجب المعاهدات التي أبرموها معه، فابتهجت أثينا لمقتله، كما طُرِدت حامياته من أراضيها، واستدعت ايتولية منفييها المناوئين لفيليب، وتأججت نار الثورة في طيبة ومعظم مدن البلوبونيز، وكذلك الأمر في مقاطعتي تراقية والورية المتاخمتين لمقدونية من الشرق والغرب حيث أخذت تظهر أعراض تنم عن تهديدهما مقدونية نفسها.
ولم يتردد الإسكندر -الذي لم يكن قد تجاوز العشرين من عمره-، بل اتجه من فوره في صيف 336 ق.م نحو الجنوب واسترد سلطانه على تسالية، واختير رئيساً لحلفها مدى الحياة مكان فيليب، كما دانت له مدن حلف كورنثة واختارته قائداً للحلف مكان والده، وكلفته بغزو آسية الصغرى والقضاء على
دولة الفرس.
الإسكندر الكبير
ولما لم يكن في وسع الإسكندر أن يغزو آسية، وتراقية على وشك الثورة والورية تستعد لغزو مقدونية مع الغرب، فإنه في ربيع 335 ق.م اتجه صوب الشمال فقام بحملة جريئة أرغمت كل الشعوب البلقانية المشاكسة على تقديم فروض الطاعة له. وفي طريق العودة علم بأن الألوريين استولوا على أقوى القلاع التي كانت تحمي حدود مقدونية الغربية فخف إلى هناك وانزل بهم هزيمة فادحة. ولم يتابع الإسكندر هذا النصر بغزو الورية لمعاقبتها على ما أقدمت عليه، لأن الأنباء التي وصلته من بلاد الإغريق استدعت مواجهة الموقف هناك سريعاً. وهو أمر تكتيكي دلّل فيه الإسكندر على براعته -وهو شاب- في تقدير أولويات تحركاته سياسياً وعسكرياً.
ذلك أن الدمقراطيين من مواطني مدينة طيبة -وكانوا قد عادوا من منفاهم بعد أن أبعدهم فيليب - قبضوا على زمام الحكم في وطنهم، واستغلوا نبأً كاذباً فحواه أن الإسكندر قد قُتل، وذلك للقيام بثورة والتخلص من السيطرة المقدونية. وعلى الرغم من أن بعض المدن مثل أثينا عاضدت طيبة في ثورتها إلا أنها لم تُقدِم على أية خطوة إيجابية، فبقيت طيبة وحدها في الميدان. وعندما ضرب الإسكندر حصاراً حولها وطلب منها التسليم، رفضت وحاولت المقامة فهُزِمَ جيشها هزيمة منكرة، واستُبيحَت المدينة ودُمّرَت شر تدمير. وبعد ذلك عاد إلى مقدونية للتهيئة لغزو الشرق، بعد أن ضمن استيعاب كل مدن بلاد اليونان للدرس الذي نفذه في مدينة طيبة.
الإسكندر الكبير في إحدى معاركه
غزو الإمبراطورية الفارسيةمنذ موت الإسكندر حتى الآن، كانت حياته وشخصيته وأعماله من أكثر الموضوعات التي طرقها وأفاض في بحثها مؤرخو
العصر الهيلنستي القدماء والمعاصرون ويواكب هذا الفيض من الدراسات اختلافات بيّنة في تفسير وتعليل جانب أو آخر من جوانب وحياة وأعمال هذه الشخصية الفذة تبعاً للفترة التي تم فيها التأريخ أو قدرة المؤرخ الخاصة ولكنها رغم كل هذه الاختلافات أجمعت على عظمة الإسكندر وعبقريته في السياسة والإعمار كما في الحرب.
ولابد لنا قبل عرض فتوحات الإسكندر من الإشارة بإيجاز إلى بعض أو أهم هذه الدوافع التي كان لها الأثر الأكبر في قيام ملك غربي ولأول مرة في التاريخ بغزو الشرق على رأس جيش صغير نسبياً قياساً على جيوش منافسيه.
لاشك أن الأسس القديمة التي أقام عليها والده فيليب صرح مقدونية والاستعدادات التي جهزها قبل موته، قد سهلت كثيراً من المصاعب العسكرية أمام الإسكندر وكانت عاملاً مادياً مهماً جداً. وأسهم في تيسير مهمة الإسكندر فوزه برئاسة حلفي تسالية وكورنثة على نحو ما مر بنا سابقاً. ولا يغرب عن البال أن الإسكندر ورث عن أبيه عزمه على محاربة
الفرس تحقيقاً لدعوة ايسوقراط وكان من أشهر فلاسفة الإغريق وخطبائهم في القرن الرابع. ذلك أن هذا الفيلسوف كان قد اتجه إلى عدد من قادة بلاد اليونان وأخيراً إلى فيليب مناشداً إياه تحقيق الدعوة التي لم يمل عن ترديدها على مدى نصف قرن تقريباً، ولكنها ذهبت هباء وسط انهماك المدن الإغريقية في صراعاتها الدموية التقليدية. وفحوى هذه الإغريق وبشكل خاص أثينا واسبرطة للثأر من البرابرة والسيطرة عليهم بحق سمو الحضارة الإغريقية على ما عداها، وإنشاء مدن في الأقاليم التي تقهر.
بقايا تمثال يمثل الإسكندر الكبير
ولاشك أن حث أرسطو للاسكندر على الاطلاع والبحث عن المعرفة كان دافعاً آخر من دوافع الحملة الشرقية بدليل اصطحابه معه عدداً كبيراً من العلماء والمتخصصين في مختلف فروع المعرفة، وهو الأمر الذي لم نعهده في غزوات الملوك السابقة لغزوة الإسكندر، وفي رأي بعض المؤرخين أن ارسطو لم يوح إلى الإسكندر بالقيام بحملته الشرقية وتكوين إمبراطورية عالمية، ومرد هذا الرأي-فيما يبدو- إلى أن ما فعله الإسكندر كان مجافياً لأفكار أرسطو وهو الذي لم يكن يقر قيام دولة أوسع نطاقاً من الجمهوريات الصغيرة الإغريقية، ولا المساواة بين الإغريق «والبرابرة» في المعاملة. وإذا كان من الجائز أن ارسطو لم يوح إلى الإسكندر بمحاربة الفرس، فإنه يجب أن نلاحظ أن أرسطو كان يعتبر هذه الحرب حرباً عادلة، وأن الصلة لم تنقطع بين التلميذ وأستاذه إلا عندما خرج التلميذ على تعاليم أستاذه في معاملة «البرابرة»، وهو أمر اعتبره بعض المعاصرين له كفراً بحق الحضارة الإغريقية المتميزة كما سنتبين فيما بعد.
ويجب ألا يفوتنا هذا التنويه بأنه كانت تحت أمرة الدولة الفارسية موارد لا تنضب من الأموال والرجال، ولديها أسطول ضخم يسيطر على الحوض الشرقي للبحر المتوسط. غير أنه كان يقلل من شأن ذلك كله، ويُغري على غزو هذه الدولة أنها كانت تفتقر إلى القادة المحاربين وإلى ما أحرزه الإغريق والمقدونيون من تقدم في فنون القتال خلال النصف الأول من القرن الرابع.
ومع ذلك فإن كثيراً من المؤرخين يهونون من قيمة هذه النقائص، وكذلك إمعاناً في إضفاء المزيد من صفات العظمة الخارقة على انتصارات الإسكندر السريعة. ذلك أنه من غير المعقول منطقياً أن يقوم أي ملك مهما تبلغ درجة جرأته أو تهوره بتدبير هجوم على دولة تفوقه تفوقاً هائلاً من حيث العدد والعدة، وتسيطر على موارد ومقومات عسكرية ضخمة دون الوقوف على ما يؤكد له ولو إلى حد ما، أنه يمكن في هذه الدولة من عناصر الضعف ما يهيء له فرصاً معقولة للانتصار عليها، وهذا أمر لا شك أنه توافر للاسكندر بشكل أو بآخر.
مراحل الغزواستدعاء بارمينيونوفي خريف سنة 335 عاد الإسكندر من بلاد الإغريق إلى مقدونية ليكمل استعداداته، واستعدادات والده فيليب من قبل. فاستدعى بارمينيون - أحد قواد والده- من آسيا الصغرى، حيث كان والده قد أرسله سنة 336 على رأس قوة استطلاعية. وعاد بارمينون بعد أن قام باستبقاء قسم من قواته على سواحل الدردنيل (الهلسبونت) لتأمين رأس جسر لإنزال القوات المقدونية عندما تحين ساعة الصفر.
لوحة تمثل انتصار الإسكندر على الفرس
آسية الصغرى وموقعة أسوسوفي ربيع سنة 334 عبر الإسكندر الدردنيل، ومعه من الجند ما يربو على ثلاثين ألفاً من المشاة، وما يزيد على خمسة آلاف من الفرسان، بعد أن ترك وراءه قائده العجوز أنتيباتروس (Antipatros) على رأس حوالي (9000) من المشاة و(600) من الفرسان لتصريف أمور الحكم في مقدونية، والإشراف على الحالة في بلاد الإغريق. وإن دل هذا على شيء فهو يدل على أنه برغم أن حلف كورنثة أقام الإسكندر رئيساً عليه، ووافق على محاربة الفرس، فإن الإسكندر لم يثق بإخلاص الإغريق لقضيته بناء على معرفته بشدة تمسك الإغريق باستقلالهم التام، ويخشى على مؤخرته وخطوط مواصلاته من تمرد الإغريق أثناء محاربة الفرس.
ويبدو أن الملك الفارسي دارا لم يقدر مدى الخطر الذي وفد عليه من وراء البحر، فكلف عدداً من ولاته في آسية الصغرى بصدّ هجوم الغازي المقدوني. وبالفعل قام ولاة كل من فورجيه على الدردنيل، ولودية وايونية وكبدوكية وفروجية الوسطى بإعداد قوة كبيرة بقيادة (ممنون) الرودوسي، واتخذوا لهم موقعاً منيعاً على الضفة الشرقية الشديدة الانحدار لنهر جرانيكوس اتجاه مدينة لامبساكوس، وعندما أقبل الإسكندر تغاضى عن نصيحة قائده بارمنيون بالانتظار، وقام بإنفاذ عدد من خيالته ومشاته للهجوم على ميمنة العدو في حين قاد بنفسه ما تبقى من جنده وقام بعبور النهر فجأة عند التقاء ميسرة العدو مع قلبه وتحطيم مقاومة الفرس الذين قاوموه مقاومة يائسة فقتل منهم وأسر عدد كبير وفر الباقون. وهكذا تحطم الجيش الفارسي الذي تصور الملك الأكبر أنه كان في وسعه الدفاع عن آسية الصغرى بأسرها حتى جبال طوروس. ولم يبق أمام الإسكندر إلا الاستيلاء على المواقع المنيعة التي بها حاميات فارسية أو مرتزقة إغريق في خدمة الفرس.
وكان الفرس يعتمدون في حكمهم المدن الإغريقية في آسية الصغرى على الطغاة والحكومات الاوليجاركية مع إقامة الحاميات في المراكز الحساسة وهي الطريقة نفسها التي اعتمد عليها انتيباتروس في حكم بلاد الإغريق باسم الإسكندر. ولكن الإسكندر نهج في آسية الصغرى بعد نصره السابق نهجاً مغايراً لذلك. وهو الاعتماد على تأييد الحكومات الدمقراطية الحرة. ومرد ذلك إلى أن الدمقراطيين كانوا يكرهون حكامهم الطغاة والاوليجاركيين وكذلك الفرس الذين أقاموا عليهم أولئك الحكام، وإلى أن أعداء الفرس كانوا أصدقاء الإسكندر بحكم المصالح المتبادلة، ولهذا فإن الفاتح المقدوني أعلن أنه قد أتى للقضاء على الحكومات الاوليجاركية وإعادة الدمقراطية، والسماح لكل مدينة باسترداد حقها في الحرية والتمتع بقوانينها الخاصة التي كانت لها قبل خضوعها لسلطان الفرس.
وكان من جراء هذا الإعلان أن الدمقراطيين قاموا بالاستيلاء على مقاليد الأمور في مدينة إغريقية بعد أخرى، وبطرد الحكومات الموالية للفرس. وعلى هذا النحو اكتسب الإسكندر ولاء هذه المدن وضمن خطوطه الخلفية قبل متابعة زحفه جنوباً صوب
سورية.
عملة فضية عليها رسم وجه الإسكندر الكبير
ودلل الإسكندر هنا مرة أخرى على حسن تقديره للأمور، وذلك بعدم تعريض نفسه لمجازفة الاشتباك مع الأسطول الفارسي وكان ثلاثة أضعاف أسطوله بل قرر تسريح هذا الأسطول لعجز موارده عن تحمل نفقات أسطول لا يجنى من ورائه فائدة مجزية لحملته، ورأى أن خير وسيلة للقضاء على الأسطول الفارسي هي الاستيلاء على قواعده البرية في آسية الصغرى وسورية ومصر ليحجب عنه أي مدد أو مساعدة، وتبعاً لذلك فإنه بعد نصره في معركة جرانيكوس، استولى على افسوس وملطيه ثم على هاليكارناسوس بعد أن دافع عنها أهلها بضراوة بقيادة ممنون قائد المرتزقة والأسطول الفارسي الذي لجأ إلى المدينة بعد هزيمته في معركة جرانيكوس.
وبعد استسلام معظم مقاطعات آسية الصغرى ومدنها الرئيسية وتعيين عدد من قادته على الولايات التي أخضعت، خف الإسكندر شمالاً للانضمام إلى قوات قائده بارمنيون عند جورديوم، حيث انتظر وصول الإمدادات من مقدونية. وحدث عندئذ أن مات ممنون الرودوسي قائد الأسطول الفارسي والمحرك الأول للمشاكل وللثورات ضد الإسكندر، وكان خليفته أقل منه حنكة وقوة، وزاد في ضعفه أن دارا انقص قواته نقصاً كبيراً فبقي في قيادته مكتوف الأيدي بقوات رمزية.
ومن جورديوم اتجه الإسكندر في زحفه شمالاً صوب أنقرة، حيث وفد عليه مبعوثون من بعض الولايات البعيدة لتقديم فروض الطاعة. وإزاء زوال خطر ممنون، والاستعدادات التي بدأ دارا يتخذها خف الإسكندر جنوباً لاحتلال البوابات الكيليكية (إحدى مداخل سورية من الشمال) ذات الموقع الاستراتيجي الهام. وبعد الاستيلاء عليها اتجه إلى مدينة طرسوس، وفيه أصابته حمى شديدة استطاع طبيبه فيليب الاكارناني معالجته منها وبعد شفاء الإسكندر أوفد بارمنيون على رأس قوات للاستيلاء على الممرات المؤدية إلى سهل أسوس، ولحق به عندما علم بوصول دارا إلى منطقة بحيرة أنطاكية (حالياً بحيرة العمق).
وعندما نشبت موقعة اسوس، -إحدى أعظم مواقع التاريخ- في تشرين الأول سنة 333 ق.م، استطاع الفيلق المقدوني إثبات قدرته القتالية وفعاليته تجاه الأنماط التقليدية للحرب القديمة، وهزم جيش دارا هزيمة قاسية، وتفرقت فلوله في كل حدب وصوب، وقاد الملك المهزوم بقايا جيشه باتجاه الشرق للاستعداد للمعركة المقبلة تاركاًً أمه وزوجه وابنتيه وعدداً من جواريهما في قبضة الإسكندر الذي تذكر المصادر أنه عامل الجميع معاملة حسنة وتزوج فيما بعد بإحدى بنات دارا.
تمثال نصفي للإسكندر
نظم الإسكندر المؤقتة للبلاد التي فتحها في آسية الصغرىولعله من المناسب أن نتوقف هنيهة لنشير في إيجاز إلى أنه قبل متابعة الإسكندر زحفه إلى ما وراء آسية الصغرى وضع نظماً مؤقتة -إدارية ومالية وعسكرية- للبلاد التي فتحها هناك. وأمام ضيق الوقت استبقى معظم النظم الإدارية الفارسية مع إجراء بعض التعديلات الطفيفة. وإذا كنا سنرى أنه في الولايات الشرقية حاول الإسكندر الفصل بين السلطات المدنية والعسكرية والمالية، فإنه في الولايات التي فتحها في آسيا الصغرى اكتفى بإقامة مشرفين ماليين مستقلين تاركاً للولاة المقدونيين الذين أقامهم بدلاً عن الولاة الفرس الجمع بين السلطتين المدنية والعسكرية.
وحرص الإسكندر على التودد إلى المدن الإغريقية ضماناً لاستقرار الأمور لصالحه. ذلك أن كل مدينة كان شعبها أو الإسكندر يعيد إليها الحكم الدمقراطي كان الإسكندر يعفيها من الضريبة التي اعتادت دفعها للملك الفارسي، وفضلاً عن ذلك فإن الإسكندر ضم على الأقل بعض هذه المدن إلى الحلف الهليني (كورنثة) الذي كان يرأسه ولم يكن معنى إعادة الإسكندر للدمقراطية في مدن آسية الصغرى السماح بالعودة إلى النزاعات والصراعات الحزبية القديمة، لعل تدخل الإسكندر في مدينة افسوس وجزيرة خيوس لوقف هذا الصراع وقتل الخصوم السياسيين ومنع اتهام أحد مستقبلاً بميوله الفارسية ينهض دليلاً قاطعاً على حرص الإسكندر على أن يسود الوئام بين الإغريق، وكذلك بين الإغريق والفرس.
وبعد تنظيم شؤون المناطق المفتوحة، وضمان خطوط مواصلاته وتثبيت حلفاء له في المدن الإغريقية. لم يقتف أثر دارا وإنما اتجه صوب فينيقية لتحطيم والاستيلاء على قواعد الأسطول الفارسي المسيطر على بحر ايجة والذي كان ينطلق في معظمه من المدن على الساحل السوري.
عملة نقدية عليها رسم لوجه الإسكندر
سوريةوفي أول الساحل السوري أعاد الإسكندر تأسيس (مرياندروس) الفينيقية القديمة وأسماها الإسكندرية (حالياً
الاسكندرونة) ثم تقدم نحو (ماراثوس) (عين الحية،
عمريت حالياً) فاستقبله فيها استراتون نائب ملك
أرواد والساحل المقابل له، وقدم له تاجاً من ذهب متنازلاً له عن أرواد وماراثوس ومملكته كلها، وذلك في الوقت الذي كان فيه والده (جروستراتوس) وعدد من ملوك فينيقية وقبرص فضلاً عن قائدي البحرية الفارسية في بحر ايجه ينتظرون الأوامر للتحرك بمساعدة اجيس ملك اسبرطة.
وفي ماراثوس كلف الإسكندر بارمنيون بالاستيلاء على
دمشق، وكانت المدينة الرئيسة في سورية الداخلية. وبدون قتال تم الاستيلاء على دمشق حيث استولى بارمنيون أيضاً على مهمات جيش دارا وخزانة حربه، وكانت قد أرسلت إلى هذه المدينة أثناء موقعة أسوس، وقد أسهمت هذه الأسلاب في وضع حد للمتاعب المالية التي كان الجيش المقدوني يعاني منها.
وفي ماراثوس أيضاً تسلم الإسكندر رسالة من دارا يعرض عليه فيها إطلاق سراح أسرته مقابل التحالف والصداقة، ولكن الإسكندر رفض هذا العرض وأذاع إعلانا سياسياً أورد فيه الأسباب المبررة لقيامه بغزو الإمبراطورية الفارسية وركز فيه على قيام اكسركس بغزو بلاد اليونان قبل حوالي قرن من الزمن وقيام دارا نفسه بالتدخل في شؤون بلاد اليونان، وأعلن في الختام أنه الملك الفعلي لآسيا بموجب حق الفتح والغلبة.
تمثال نصفي للإسكندر
وغادر الإسكندر ماراثوس صوب الجنوب، حيث بلغه نبأ استسلام جبيل وترحيب سكان صيدا به الذين لم ينسوا تحول المدن الفينيقية عنهم أثناء محنتهم مع الفرس سنة 344 ق.م فدخل هذه المدينة العريقة وأعاد إليها ممتلكاتها ودستورها الخاص، ثم تابع زحفه جنوباً، وفي الطريق استقبل وفداً من سكان صور جاءه عارضاً عليه في غياب ملكهم المرافق للأسطول الفارسي استسلام مدينتهم. بيد أنه عندما طلب الإسكندر السماح له بدخول المدينة ليقدم القرابين لما زعمه بأنه جده الأعلى الإله «ملقارت» رفض الصوريون طلبه.
ورداً على هذا الرفض، حاصر الإسكندر المدينة سبعة أشهر تعرض خلالها لمقاومة عنيفة وبخاصة خلال محاولته إقامة الأبراج في البحر للوصول إلى ميناء المدينة إلى أن استطاع في أواخر تموز سنة 332 ق.م اختراق أسوار المدينة بهجوم بري وبحري عام والاستيلاء عليها بعد مقتل ثمانية آلاف من سكانها وأسر ما يقرب من الثلاثين ألفاً بيعوا في أسواق النخاسة. وانتقم الإسكندر من المدينة فجعلها مركزاً لحامية مقدونية. ولما كان الإسكندر قد أبقى على الملكية في صيدا، فقد آلت إليها زعامة الساحل السوري. وفي أثناء حصار صور تسلم الإسكندر إمدادات من جميع قطع الأسطول الفينيقي (فيما عدا القسم الذي كانت تسهم به صور)، كما وصلت إليه سفن قبرصية، وكان من نتيجة ذلك ومن نتيجة سقوط صور وتدمير أسطولها أن الأسطول الفارسي فقد أفضل سفنه، ولم يعد يشكل ذلك الخطر الكبير الذي كان الإسكندر يخشاه.
وفي أثناء حصار الإسكندر لصور تسلم رسالة ثانية من دارا عارضاً عليه فيما عرضه محالفته والنزول له عن كل إمبراطوريته غربي الفرات ودفع مبلغ عشرة آلاف وزنة فدية لأسرته إضافة إلى زواجه من ابنته، ولكن الإسكندر رفض عروض دارا كلها ورد عليه رداً قاسياً وحاسماً، وتابع مسيره الساحلي في اتجاه مصر بعد أن ترك بارمنيون في دمشق لتنظيم شؤون سورية إدارياً وعسكرياً ومالياً.
ويبدو أن غزة لم تتعظ بمصير صور فامتنعت عن التسليم اعتماداً على مناعة أسوارها، وتأييد حلفائها من الأعراب. وقاومت غزة الإسكندر مدة شهرين كاملين (صيف 332ق.م) على أن استطاع اقتحامها والاستيلاء عليها، وقتل الكثيرين من أهلها وأسر الباقي. ولابد من الإشارة هنا إلى أن معظم المؤرخين المعاصرين يشكون في صحة زيارة الإسكندر بيت المقدس وهي الزيارة التي ذكرها المؤرخ اليهودي يوسف ولم يرد لها ذكر عند غيره من المؤرخين القدامى.
عملة نقدية عليها رسم الإسكندر
مصروبعد تحطيم غزة، تابع الإسكندر طريقه إلى مصر فوصلها في أواخر تشرين الأول (نوفمبر) 332ق.م ، فاستسلم (مزاكس) والي مصر الفارسي في العاصمة ممفيس وسلم الإسكندر كافة كنوز مصر لعلمه اليقين بعجزه عن مقاومة الإسكندر بعد هزيمة مولاه وهربه وسيطرة الإسكندر على
سورية، ولاسيما أنه كان لا يستطيع الاعتماد على مساندة الشعب المصري وكان يكره
الفرس كرهاًً شديداً. وهكذا آلت مصر إلى الإسكندر بدون قتال. ولما كان المصريون يحقدون على الفرس لانتهاكهم حرمة ديانتهم، فقد كان أول عمل قام به الإسكندر عندما حط رحالة في العاصمة المصرية ممفيس (منف) هو أن يظهر احترامه للديانة المصرية. ولذلك قدم القرابين في معبد (فتاح) Ptah للآلهة الوطنية والعجل المقدس (ابيس) Apis ورسم نفسه فرعوناً طبقاً للطقوس الدينية المصرية.
وبعد فراغه من تأسيس مدينة الإسكندرية التي دفعه إلى تأسيسها محبته لإنشاء المدن وتخليد اسمه إضافة إلى رغبته في نشر الثقافة الهلينية وحاجته إلى مركز حربي بحري وأخيراً نقل تجارة صور وغزة إليها بعد تحطيم المدينتين، أخذ الإسكندر جزءاً من جيشه ونفراً من صحبه واتجه في محاذاة الشاطئ حتى وصل إلى (بارايتونيون = مرسي مطروح) ثم توغل في الصحراء قاصداً الحج إلى معبد (آمون) Amon في واحة (سيوه)، وكان يضارع في أهميته أعظم معابد الوحي الإغريقية، ويميل أغلب الباحثين إلى أن الإسكندر قام بهذه الزيارة لتحقيق غايتين أمام الرأي العام العالمي وهما: إثبات صلة نسبه بالآلهة المصرية وبالتالي أحقيته في حكم مصر والفوز بمباركة الإله آمون لمشروعاته المقبلة. وقد كان من شأن تحقيق هاتين الغايتين أن ييسر على الملك الإله تكوين إمبراطورية عالمية وبسط نفوذه في أرجائها.
وقبل أن يبرح الإسكندر مصر، قام بتنظيم البلاد تنظيماً دقيقاً، فمنحها استقلالاً داخلياً، ووضع وادي النيل تحت أمرة حاكمين أحدهما على الأقل مصري، في حين وضع الأقاليم المتاخمة للدلتا تحت إشراف رجلين من الإغريق، وأمر الجميع أن يرعوا في حكمهم التقاليد المصرية القديمة وتحصيل الضرائب وتسليمها إلى (كليومنس) النقراطيسي، وكان أحد الحاكمين الذين عينهم الإسكندر وأوكل إليه أيضاً الإشراف على إنشاء الإسكندرية.
وعندما فرغ الإسكندر من مهامه في مصر، برحها في ربيع سنة 331ق.م بعد أن أوفد بعثة علمية إلى السودان لتقصي سبب فيضان النيل بموجب توصية أستاذه أرسطو قاصداً بابل لملاقاة الجيش الفارسي ثانية بعد أن أعاد تنظيمه وتولى قيادته الملك الأكبر بنفسه.
الإسكندر المقدوني الكبير
تنظيم سوريةوفي طريقه عرج على
سورية، حيث قام بتعيين أحد قادته المدعو (لاومدون) والياً عاماً على سورية الكبرى، وجعل له معاونين في إدارة المال والجيش، كما عين (اسكلبيودوروس) حاكماً على
دمشق وأنشأ فيها مركزاً للتفتيش المالي.
ولا يعرف سبب غير خشية الإسكندر من طموح من يحكم مثل هذه الرقعة الهائلة من الأرض دفعه لأنه يكوّن من أراضي الجزيرة (السورية) ولاية جديدة. وفي الوقت الذي كان الإسكندر يصدر أوامره بتثبيت معظم ملوك الساحل السوري على عروشهم كان قائده بارمنيون يقيم جسراً على نهر الفرات حيث كان (مازايوس) والي سورية الفارسي يرابط على الضفة الغربية على رأس قوة فارسية صغيرة.
ما وراء الفراتوتؤكد معظم الدراسات الحديثة أن القيادة الفارسية بذلت جهوداً مضنية خلال سنة ونصف في سبيل إعادة إنشاء جيش يتمكن من الصمود في وجه جيش محترف تقوده عبقرية فذة، ورغم أنها حققت بعض النجاح في هذا المجال إلا أنها لم تتخذ الخطوة الأكثر ضرورة وحسماً وهي تنحية الملك دارا نفسه عن القيادة العسكرية في ساحة القتال.
وفي تموز (يوليو) سنة 331ق.م لحق الإسكندر بقائده بارمنيون -وكان يرابط على ضفة الفرات الغربية- وعبر الفرات ثم الدجلة بدون مقاومة، ثم اتجه صوب قرية صغيرة تدعى (جاوجميلا) (موقع تل جومل على بعد حوالي 50طك شمالي اربيل) حيث كان دارا قد عسكر على مقربة منها على رأس جيش كبير تسانده عدد من العربات المنجلية وخمسة عشر فيلاً هندياً مدرباً على القتال.
وأفلح جيش الإسكندر في الحصول على نصر كبير بعد معركة ضارية، فرَّ على أثرها دارا، وزحف الإسكندر على بابل حيث سلم له مازايوس وكان قائداً بارعاً حارب بكفاية وإخلاص في معركة جاوجميلا، ولكن فرار الملك من المعركة ترك في نفسه أعمق الأثر. وقد أكرم الإسكندر هذا الرجل وعينه والياً على بابل، وكان هذه هي أول مرة أسند فيها الإسكندر مثل هذا المنصب إلى فارسي، ولكن الإسكندر عين إلى جانبه قائداً عسكرياً مقدونياً، وكذلك مشرفاً على الشؤون المالية. وعندما سلم إلى الإسكندر عدد من قادة الفرس البارزين عيّن منهم سبعة عشرة ولاة، ولكن الإسكندر أعطى مازايوس دون غيره من الفرس الذين أقامهم حكاماً على بعض الولايات حق سك النقود. وإزاء الترحيب الذي قوبل به الإسكندر في بابل أمر بإلغاء جميع قرارات الملك الفارسي اكسركس التي أبطلت العادات والتقاليد البابلية. وبعد ذلك تابع الإسكندر تقدمه نحو سوسا حيث عين عليها والياً فارسياً آخر، ثم سارع صوب برسبوليس واستولى عليها، وغنم من كنوزها ما قدر بمائة وثمانين ألف تالانت، ولا يعرف السبب الذي دعاه بعد ذلك إلى الإقدام عامداً متعمداً -برغم نصيحة بارمنيون- على إحراق قصر اكسركس، وإن كان بعض المؤرخين يعتقدون أنه أراد أن يكون هذا العمل عبرة لآسيا وإيذاناً بأنه تم الأخذ بثأر المعبد البابلي العظيم (E. Sagila) الذي خربه اكسركس قبل حوالي قرن من الزمن.
وعندما علم الإسكندر بأن دارا يعد العدة لمتابعة القتال في (اكباتانا) -وكان قد فرّ إليها بعد معركة جاوجميلا- أسرع لملاقاته قبل أن يُتم استعداداته ولكن قادة دارا تآمروا على مليكهم بعد يأسهم من قتال الإسكندر واغتالوه بزعامة (بارسانتس) قبل وصول الإسكندر إليه بوقت قصير، فأمر بأن تدفن جثة غريمه باحتفال ملكي مهيب.
وكان من جراء اغتيال الملك الأكبر بعد الهزائم التي نزلت بالفرس وتفرق كلمتهم أنه لم يعد في وسعهم بوصفهم دولة، مغالبة الإسكندر. وهكذا طويت إلى حد كبير آخر صفحة من صفحات الإمبراطورية الفارسية وبدأ حكم جديد للمنطقة تحت رعاية حكام جدد يمثلون حضارة جديدة.
وكذلك كان من جراء انتصارات الإسكندر واغتيال دارا أن الإسكندر أصبح الملك الأكبر بحق الفتح ودعا نفسه «سيد آسيا»، وتبعاً لذلك أصبح من حقه أن يُعامِل كل من يقاومه معاملة العصاة الخارجين على سيد البلاد حتى ولو كانوا من العناصر الوطنية. ولذلك فإن الولاة الفرس الذين قدموا له فروض الولاء عفا عنهم وثبتهم في مناصبهم، أما الذين قاوموه ووقعوا في الأسر فإنه أعدمهم.
ومما يجدر بالملاحظة أنه منذ مقتل دارا دأب الإسكندر في المناسبات الرسمية على ارتداء الثياب الفارسية وإتباع المراسم الفارسية بازدياد مطرد.
والمهم في الأمر، أنه بعد أن أمّن الإسكندر مؤخرته باستسلام ولاة الهضبة الإيرانية وفرار بعضهم الآخر، اتجه شمالاً باتجاه باكترية لاقتفاء أثر هؤلاء. وفي طريقه بلغ الإسكندر نبأ استسلام (ساتيبارزانس) والي آريه فعفا عنه وثبته في ولايته وأرسل إليه أحد قواده لمرافقته وإن لم يزوده بقوات كافية، دليلاً على رغبته في إتباع سياسة جديدة تقوم على أساس الثقة بالولاة الفرس. وعند وصول الإسكندر إلى (بلخ) بلغه تمرد ساتيبارزانس، مما اضطره إلى العودة جنوباً وإخضاع آريه ثانية رغم فرار ساتيبارزانس بصعوبة. وعلى مقربة من إحدى المدن الهامة التي تدعى (ارتاكوانا) أسس أول مدينة حملت اسمه شرقي الدجلة. وفي طريقه باتجاه باكترية توقف الإسكندر في المقر الملكي الفارسي في (فرادا) حيث حاكم فيلوتاس -أحد أفضل ضباطه- بتهمة الخيانة لشخص الإسكندر وأعدمه، كما أصدر في السنة نفسها 330ق.م أمراً باغتيال أعظم قادته بارمنيون للشك الذي خامر الإسكندر حوله والأقاويل التي حيكت حول تصرفاته السابقة.
وبعد إعادة تنظيم بعض فرق الجيش أخضع الإسكندر كلا من ولايات الهند الشمالية والشمالية الغربية. وبحلول سنة 328ق.م نجح الإسكندر بعد جولة مثمرة في شمال شرق الهضبة الإيرانية في فرض سيطرته على كافة الأصقاع التي دانت في فترة سابقة للمتمردين من بدو الساكا والصغديين والباكتريين، وأهمهم (أوكسو أرتس) الذي استسلم رجاله للاسكندر بعد مقاومة عنيفة ووقعت أسرته في الأسر بما فيها ابنته (روكسانا) التي تزوجها الإسكندر فيما بعد متابعاً بذلك سياسته التي أفضت إلى سوء التفاهم وفقدان الثقة بينه وبين الإغريق والمقدونيين. ذلك أن هذا الزواج كان زواجاً سياسياً محضاً قصد به إظهار احترامه للعرق الفارسي بصورة خاصة، واسترضاء الأمراء الشرقيين، ووضع حد للحرب القومية بصورة عامة.
وإلى حين اغتيال دارا واستيلاء الإسكندر على العاصمة الفارسية اكباتانا في صيف سنة 330ق.م كان الإسكندر ملكاً مقدونياً وقائداً لحلف كلفه بمحاربة الفرس، وقد بلغت هذه المهمة غايتها بتحطيم الدولة الفارسية، ولعل الإغريق بحلفيهم شعروا بأنه لا علاقة لهم باستمرار زحف الإسكندر شرقاً، وخاصة عندما رأوه ماضياً في اتخاذ بعض الخطوات التي أشعرتهم وأكدت قناعتهم بان الإسكندر لم يعد مليكهم فقط بل أصبح ملكاً آسيوياً، ذلك أن الإسكندر عني باحترام رعاياه الجدد من الشرقيين (مصريين وسوريين وبابليين وفرس) لإيمانه بأن التفرقة بين الناس في المعاملة يجب أن تقوم على أساس فضلهم وليس جنسهم، وقناعته بأنه على الرغم من تأخر بعض مظاهر حضارات هذه الأقوام عن الحضارة الإغريقية، فإنه من الممكن تحضير هؤلاء والاستفادة من مقوماتهم الحضارية القائمة، وهي عكس الفكرة التي كان ينادي بها أرسطو كما أسلفنا، ودان بها الإغريق بوجه عام.
وقد ضاق رفاق الإسكندر بما لاحظوه من أنه لم يكتف بإقامته ولاة من الفرس بل أنه دَرَجَ منذ وفاة دارا على التشبه بملوك الفرس في المناسبات العامة ثم شَفع ذلك بزواجه من فارسية، وأعقب ذلك بإعداد العدة لتدريب عدد كبير من شباب الفرس على النهج المقدوني في القتال.
وعلى أية حال، فقد كان من شأن هذه التصرفات التي قام بها الإسكندر أن رفاقه من المقدونيين والإغريق تخيلوا -نظراً لعَجزهم عن فهم المغزى الحقيقي الذي رمى إليه الإسكندر- أنه تحول إلى ملك فارسي، ورأوا أن من واجبهم وقفه عند حده. مما تسبب له في كثير من المتاعب كانت أولاها مؤامرة (فتيان القصر) وهي التي ارتبط بها اسم (كاليسثنس) والذي حكم عليه بالإعدام مع بقية المتآمرين.
وبيان ذلك أن أحد فتيان الحاشية ويدعى (هرمولاوس)، تآمر ونَفَرْ من زملائه على حياة الإسكندر، بإيحاء من كاليسثنس الذي أثبت التحقيق أنه ردد على مسامعهم تحبيذه قتل الطغاة، ولعل مجرد حدوث هذه المؤامرة يكفي للدلالة على عجز رفاق الإسكندر بما فيهم أنضجهم عقلاً وأكثرهم ثقافة مثل كاليسثنس عن تفهم مرامي الإسكندر السياسية.
ولم يكن من شأن التآمر على حياة الإسكندر أن يصرفه عن المضي قدماً في اتجاهه. ذلك أنه حين كان لا يزال في باكترية خطا خطوتين في هذا الاتجاه أحداهما هي انه وضع فرقة الفرسان الملكيين تحت قيادته الخاصة، وضم إليها قلة من أبناء نبلاء الفرس والخطوة الأخرى هي أنه أعاد جميع فرسانه البلقانيين إلى بلادهم عدا التراقيين منهم واستبدل بالذين أعادهم فرساناً من الشرقيين ممن استبسلوا سابقاً في مقاتلته قبل إخضاع ولاياتهم ثم أخلصوا في خدمته، وهو أمر يعكس مدى ثقة الإسكندر بنفسه وبسياسته.
قناع الإسكندر
غزو الهندوبعد إعادة تشكيل قواته في مدينة (تاكسيلا) أصدر الإسكندر أوامره إلى هذه القوات -التي بلغت حوالي ثلاثين ألفا- بالتحرك باتجاه الهند التي لم يكن يعرف عنها إلا معلومات ضئيلة لقنه إياها أستاذه أرسطو. ولم يكن مدلول الهند عند الإسكندر عندما غزاها أكثر من إقليم البنجاب، ولما كانت هذه (الهند) جزءاً من إمبراطورية دارا الأول فإن غزوها كان أمراً ضرورياً لاستكمال فتح هذه الإمبراطورية.
وفي بداية صيف سنة 327ق.م ، خرج الإسكندر من مدينة باكترا وفي طريقه صوب كابول قدم له بعض زعماء المنطقة عدداً من الأفيال هدية لمتابعة حربه بعد أن يئسوا من مقاومته، واستطاع في فترة وجيزة بما أوتي من روح معنوية عالية وكفاية حربية مهارة دبلوماسية اكتساح معظم الاقاليم المتاخمة لمملكة (باورافا) شمال غربي الهند، وكان ملكها (بوروس) قد تحالف مع بعض الحكام المجاورين. وبعد أن أعاد الإسكندر تنظيم فرسانه، فاجأ غريمه بوروس -الذي عسكر بالقرب من أحد الأنهار- بحركة التفاف سريعة أفقدت قواتَه وفيّلَتِه قدرتها على القيام بأي هجوم معاكس مجدي، وانتهت المعركة بهزيمة قوات بوروس بعد استبسالها في المعركة استبسالاً منقطع النظير. ونظراً لشدة إعجاب الإسكندر بشجاعة بورس وقواته فإنه عرض عليه أن يصبح حليفاً له وحاكماً وطنياً يتمتع بقسط من الرعاية والحماية، فوافق بوروس على هذا العرض، كما بارك مساعي الإسكندر لإصلاح ذات البين بينه وبين حليف هندي آخر للاسكندر المدعو (تاكسيلاس) ويبدو أن الإسكندر قد خشي بعد ذلك من قيام أحدهما أو كلاهما بثورة على سلطته، فحاول جهده لإقرار موازنة بين قوات وممتلكات كل من الطرفين.
الإسكندر ذو القرنين
نهاية الحملةوابتدأت مشاق الزحف الهندي مع بداية فصل الصيف، وعندما أصر الإسكندر على متابعة مسيره لاستكمال سيطرته على بعض الشعوب التي لم تعلن ولاءها، تمرد الجيش وقد أنهكه التعب وأضناه اشتداد الحرب والحنين إلى الوطن. ورغم استياء الإسكندر من تصرف قواته واعتكافه لمدة ثلاثة أيام في انتظار عدول الجيش عن تمرده ومتابعة المسيرة، قرر في النهاية العودة وسط تهليل الجنود وفرحتهم، وبعد عناء شديد في طريقي العودة البري والبحري وصل الإسكندر وجيشه إلى مدينة سوسا الفارسية في ربيع سنة 324ق.م.
وفي سوسا، أقام الإسكندر وليمة كبرى احتفالاً بإتمام غزوه للإمبراطورية الفارسية وفي هذا الحفل عقد قرانه مع ثمانين من ضباطه على فتيات وسيدات من نبيلات الفرس، كما عقد قران 10.000 من جنوده على فارسيات، ومما يجدر بالذكر أن الإسكندر وصديقه هيفايستيون زفا إلى ابنتي دارا، وكانت (بارسيني) من نصيب الإسكندر. وكان هذا الإجراء بمثابة خطوة أخرى نحو تقوية أواصر الرباط بين الشرق والغرب عن طريق المصاهرة.
وقلق الإغريق والمقدونيون من تصرفات الإسكندر -وهي التي جعلته يبدو لهم ملكاً فارسياً أكثر منه مقدونياً- وتفاقم خلافهم معه تفاقماً شديداً وبخاصة عندما جاء حكام المدن الجديدة التي بناها الإسكندر أو غزاها ومعهم ثلاثون ألفاً من الفرس الذين تدربوا على النهج المقدوني للانخراط في صفوف الجيش. ذلك أن رجال الإسكندر ربطوا بين هذه الظاهرة والظواهر الأخرى التي مر ذكرها. واعتبروها دليلاً على استشراق الإسكندر، ولكنه لم يعر ذلك اهتماماً ومضى في طريقه وكأن شيئاً لم يكن.
فتوحات الإسكندر الكبير
وفي هذه المرحلة (324ق.م)، كان الإسكندر قد أصدر مرسومه الشهير الذي وجهه إلى المدن الإغريقية في حلف كورنثة، وفيه يبلغهم أوامره بالسماح للمنفيين السياسيين وأسرهم بالعودة إلى مدنهم واستثنى من ذلك مدينة طيبة. وكان هدف الإسكندر من ذلك استقرار الأوضاع في بلاد الإغريق بالقضاء على الصراع الحزبي في المدينة الواحدة ودرء خطر هذا الحشد الهائل من الرجال المشردين بلا وطن الذين كانوا يعرضون خدماتهم كمرتزقة على من يشاء.
ويتبين من المصادر القديمة أن الإسكندر اتخذ في السنة نفسها إجراء آخر وهو أنه طلب إلى مدن حلف كورنثة تأليهه. ويرى الباحثون أن المقصود بذلك التأليه هو إتاحة الفرصة للاسكندر للتدخل في شؤون الحلف. لأن الإسكندر رئيس الحلف مقيد بميثاقه، وأما الإسكندر الإله فإنه لا حدود لسلطته. وتبعاً لذلك يرجح الباحثون أن هذا الإجراء كان سابقاً وليس لاحقاً لطلبه الخاص بإعادة المنفيين السياسيين.
وبعد ذلك بقليل، وعندما قرر الإسكندر أن يعيد إلى مقدونية الطاعنين في السن من رجال الجيش، اكدت وساوس المقدونيين، وظنوا أن الإسكندر كان يرمي إلى أقصائهم عنه تدريجياً ونقل مركز الإمبراطورية من مقدونية إلى الشرق تمشياً مع سياسته المشرَّبة بروح العطف نحو الشرقيين. وساعد على تأكيد وساوس المقدونيين ما لاحظوه من اهتمام الإسكندر الشديد وولعه بإنشاء المدن الجديدة والمستقرات العسكرية في كافة أنحاء الإمبراطورية الفارسية، فقد كان من شأن ذلك توكيد سياسة المزج والمساواة التي رحب بها الإسكندر ودعمها بالكثير من تصرفاته، على حين أنها لم ترض كبرياء وأنفة معظم عناصره فرفضوها ضمناً، وجهراً أحياناً، ولذا فإن رجال الجيش جميعاً -باستثناء الحرس والفرق الفارسية- ثاروا على الإسكندر وطالبوا بإعادتهم جميعاً إلى أوطانهم.
وغضب الإسكندر غضباً شديداً مما اجترأ عليه رجاله، وبعد أن أمر رجال الحرس بالقبض على زعماء الفتنة، ألقى في جموع الجيش خطبة مؤثرة ختمها بتسريح الجيش من خدمته. وبعد اعتكافه لمدة يومين دعا زعماء الفرس إليه، وطلب منهم مساعدته على إنشاء جيش قوامه البشري فارسي، وتسمياته وأنظمته مقدونية، ونتيجة لهذا التصرف، وكلماته النافذة فُتَّ في عضد الجيش، وتراجع عن موقفه وعاد الجميع يطلبون الغفران والسماح، عفا عنهم الإسكندر، وتم الصلح الذي ظل مفقوداً بين الإسكندر ورجاله لفترة طويلة.
واحتفالاً بالصلح، أقام الإسكندر وليمة كبرى اختتمها بإقامة صلاة من أجل السلام متمنياً أن يدوم الوئام والتعاون بين الفرس والمقدونيين وجميع عناصر الإمبراطورية وأن يسود الحب والود والإخاء بين هذه العناصر. ولعل ابتهاله هذا يُثبت لنا بما لا يدع مجالاً لشك في أن الإسكندر لم يكن مُدَّعِياً في تصرفاته السابقة ولا مداهناًً، ولم تكن غايته الوصول إلى مكاسب سياسية مؤقتة، بل كانت معظم تصرفاته تعبيراً صادقاً عن إيمان بعقيدة راسخة كما لو كان يحمل رسالة مقدسة وَجَبَ عليه تأديتها على أحسن ما يكون. وبعد الحفل، أمر الإسكندر بإعادة الجنود القدامى -ويقدر عددهم بعشرة آلاف- بصحبة قائده (كراتروس) إلى مقدونية وبلاد الإغريق محملين بالهدايا.
الإسكندر الكبير
موت الإسكندر وتفكك الإمبراطوريةوفي ربيع 323ق.م ، وصل الإسكندر إلى بابل، وأنفذ بعثة استكشافية علمية للتأكد من أي النظريتين أصح: نظرية أرسطو القائلة بأن بحر قزوين لم يكن إلا بحيرة كبيرة، أم النظرية القديمة القائلة بأن هذا البحر ليس إلا خليجاً ناتئاًَ من المحيط. كما أنفذ بعثات لاستطلاع سواحل الجزيرة العربية، وبعدما عادت البعثات وحين كان معنياً بوضع مخططاته الحربية لغزو بلاد العرب، داهمه مرض خطير أقعده عن الحركة وأدى إلى وفاته في ليلة العاشر أو الحادي عشر من شهر تموز 323ق.م ، وكان قد عمّر ثلاثة وثلاثين عاماً، وامتد حكمه اثنتي عشر سنة تقريباً.
مؤتمر بابلعقب وفاة الإسكندر، عقد قواده في بابل مؤتمراً للفصل في مشكلة ولاية العرش والنظم التي تتبع في حكم الإمبراطورية المقدونية، وقد تفتحت أمام كل واحد منهم الآمال والمطامح بموجب الموقف الجديد والمفاجئ.
وبعد بحث مسألة ولاية العرش بحثاً مستفيضاً احتدمت في خلال المناقشة وكاد أن يقع صدام مسلح بين الفرسان والمشاة، وتم الاتفاق على أن يرتقي ارهيدايوس -ابن فيليب الثاني، من زوج غير اولمبياس- العرش تحت اسم فيليب (الثالث) أيضاً، والاعتراف بحق جَنينْ روكسانا إذا وُلِد ذكراً في مشاركة فيليب الملك بوصفهما شريكين تحت الوصاية الملكية.
وقرر المؤتمر أيضاً تعيين برديكاس، وكان أقوى القادة نفوذاً، قائداً عاماً للجيش ومهيمناً على شؤون الإمبراطورية وتعيين كراتروس وكان عندئذ في طريقه إلى مقدونية لإعادة قدامى المحاربين كما أسلفنا وصياً على الملك وكذلك على طفل روكسانا عندما يولد. كما قرر المؤتمر توزيع ولايات الإمبراطورية على قواد الإسكندر ليحكموها بوصفهم ولاة من قبل العرش المقدوني. وإزاء انصراف كراتروس إلى بلاد الإغريق لنجدة انتيباتروس في الحرب الهلينية أو «اللامية»، وكانت نتيجة للثورة التي تزعمتها أثينا بعد وفاة الإسكندر للتخلص من السيطرة المقدونية اغتصب برديكاس الوصاية لنفسه. وكان لابد من وقوع الصدام بين القادة منفردين أو مجتمعين.
الصراع بين برديكاس ومناهضيهوعندما اغتصب برديكاس الوصاية لنفسه، أخذ يصدر الأوامر إلى حكام الولايات باسم العرش ويطلب منهم الامتثال إلى هذه الأوامر، ولما كان معظم هؤلاء الحكام ينتمون إلى أعرق الأسر النبيلة في مقدونية، ويعتزون أشد الاعتزاز بأصلهم العريق وانتصاراتهم الباهرة، وكان بعضهم يعتبر نفسه جديراً بأن يخلف الإسكندر، بل أن أقلهم اعتزازاً بنفسه كان لا يمكن أن يسمح بأن يعامل غير معاملة الند للند، ولما كان لكل من هؤلاء الحكام أطماع شخصية، فإنه لم يكن هناك مفر من أن يؤدي تضارب الأطماع إلى صراع عنيف ولم ينقض وقت طويل حتى خرج كثير من حكام الولايات على طاعة برديكاس، ذلك أنه من ناحية، عندما طلب برديكاس إلى (ليوناتوس) وانتيجونوس فتح بعض أقاليم آسيا الصغرى، آثر الأول الذهاب لمساعدة انتيباتروس في الحرب اللامية في حين رفض الثاني تنفيذ الأوامر، وعندما طلب برديكاس إلى انتجونوس تفسير ملكه فرّ إلى انتيباتروس وكراتروس وحثهما على تشكيل حلف للقضاء على برديكاس الذي أصبح يقوم بدور الملك في آسيا على حد تعبير خصومه.
ومن ناحية أخرى تحدى بطلميوس -والي مصر- برديكاس تحدياً صارخاً بإعدام مساعده وكان صديق برديكاس. كما انتهز بطلميوس فرصة وقوع فتنة واضطرابات في قورينايئة (برقة في ليبيا الحالية) واستولى عليها. وأسوأ من ذلك كله أن بطلميوس اغتصب جثمان الإسكندر عندما كان في الطريق لدفنه في مقدونية بناء على قرار مجلس القادة في بابل، وقام بنقل الجثمان إلى مصر، ولم يلبث بطلميوس أن انضم إلى الحلف الذي تألف بزعامة انتيباتروس لمناهضة برديكاس.
وهكذا عندما واجه برديكاس حرباً في جبهتين سنة 321ق.م ، أسند إلى حليفه (يومنس) -والي كبدوكية- مهمة صد قوات انتيباتروس وكراتروس، وتولى بنفسه مهمة تأديب بطلميوس، وكان من أهم مساعديه في هذه الحملة سلوقس -قائد الفرسان-، وبايثوت -والي ميديه-، وانتيجنس -قائد فرقة أصحاب الدروع الفضية-، وكذلك قائد الأسطول.
وقد فشل برديكاس في الاستيلاء على موقع بلوزيون (الفرمل) وهو أول مواقع مصر الحصينة جهة الشرق. وفي المحاولتين اللتين قام بهما لعبور فرع النيل البلوزي فقد الكثير من جنده، وحيث أنه كان صلفاً متكبراً ومكروهاً بين جنوده، فإن ما مني به من فشل حفز نفراً من ضباطه كان من بينهم سلوقس على اقتحام خيمته والإجهاز عليه بدعم -على الغالب- من بطلميوس.
وقام ضباط جيشه بعرض منصب الوصاية على بطلميوس، ولكنه أشار باختيار وصيين مؤقتين إلى أن يجتمعوا بأنتيباتروس وكان في طريقه إلى الجنوب لنجدة بطلميوس بعد أن ترك جانباً من قواته بقيادة كراتروس للقضاء على يومنس. ورغم أن يومنس كان قد أحرز نصراً على جيش كراتروس الذي قتل في المعركة سنة 321ق.م ، فإنه لم يكن قوياً لدرجة تعقب انتيباتروس الذي تابع سيره، واجتمع بالجيش العائد من مصر في (تريباراديسوس) (جنوبي لبنان ) عند (الهرمل) بالقرب من